كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أنا أبو النجم وشعري شعري ** لله درى ما أجن صدري

فقوله: وشعري شعري يعني شعري هو الذي بلغك خبره، وانتهى إليك وصفه.
{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)}.
وقوله: ثلة: خبر مبتدأ محذوف، والتقدير، هم ثلة، والثلة الجماعة من الناس، وأصلها القطعة من الشيء وهي الثل، وهو الكسر.
وقال الزمخشري: والثلة من الثل، وهو الكسر، كما أن الأمة من الأم وهو الشبح، كأنها جماعة كسرت من الناس، وقطعت منهم. اهـ. منه.
واعلم أن الثلة تشمل الجماعة الكثيرة، ومنه قول الشاعر:
فجاءت إليهم ثلة خندفية ** بجيش كتيار من السيل مزيد

لأن قوله: تيار من السيل: يدل على كثرة هذا الجيش المعبر عنه بالثلة.
وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا، كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} [الواقعة: 39- 40]. فقال بعض أهل العلم: كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة، وأن المراد بالأولين منهم الصحابة.
وبعض العلماء يذكر معهم القرون المشهود لهم بالخير في قوله صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» الحديث. والذين قالوا: هم كلهم من هذه الأمة، قالوا: إنما المراد بالقليل، وثلة من الآخرين، وهم من بعد ذلك إلى قيام الساعة.
وقال بعض العلماء: المراد بالأولين في الموضعين الأمم الماضية قبل هذه الأمة، والمراد بالآخرين فيهما هو هذه الأمة.
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له: ظاهر القرآن في هذه المقام: أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية، والآخرين فيهما من هذه الأمة، وأن قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} في السابقين خاصة، وأن قوله: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} [الواقعة: 39- 40] في أصحاب اليمين خاصة.
وإنما قلنا: إن هذا هو ظاهر القرآن في الأمور الثلاث، التي هي شمول الآيات لجميع الأمم، وكون قليل من الآخرين في خصوص السابقين، وكون ثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين لأنه واضح من سياق الآيات.
أما شمول الآيات لجميع الأمم فقد دل عليه أول السورة، لأن قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1]- إلى قوله- {فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا} [الواقعة: 6] لا شك أنه لا يخص أمة دون أمة، وأن الجميع مستوون في الأهوال والحساب والجزاء.
فدل ذلك على أن قوله: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً} [الواقعة: 7] عام في جميع أهل المحشرن فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين منهم من هو من الأمم السابقة، ومنهم من هو من هذه الأمة.
وعلى هذا، فظاهر القرآن، أن السابقين من الأمم الماضية أكثر من السابقين من هذه الأمة، وأن أصحاب اليمين من الأمم السابقة ليست أكثر من أصحاب اليمين من هذه الأمة، لأنه عبر في السابقين من هذه الأمة بقوله: {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} وعبر عن أصحاب اليمين من هذه الأمة {وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين}.
ولا غرابة في هذا، لأن الأمم الماضية أمم كثيرة. وفيها أنبياء كثيرة ورسل، فلا مانع من أن يجتمع من سابقيها من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من سابقي هذه الأمة وحدها.
أما أصحاب اليمين من هذه الأمة فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين جميع الأمم، لأن الثلة تتناول العدد الكثير، وقد يكون أحد العددين الكثيرين أكثر من الآخر، مع أنهما كلاهما كثير.
ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير، لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة.
فأما كون قوله: {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} دل ظاهر القرآن على أنه في خصوص السابقين، فلأن الله قال: {والسابقون السابقون أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم} [الواقعة: 10- 12] ثم قال تعالى مخبرًا عن هؤلاء السابقين المقربين {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين}.
وأما كون قوله: {وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} [الواقعة: 40] في خصوص أصحاب اليمين، فلأن الله تعالى قال: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لًاصْحَابِ اليمين ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} [الواقعة: 36- 40]، والمعنى هم أصحاب اليمين: ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، وهذا واضح كما ترى.
{عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)}.
السرر جمع سرير، وقد بين تعالى أن سررهم مرفوعة في قوله في الغاشية: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} [الغاشية: 13] وقوله تعالى: {مَّوْضُونَةٍ} منسوجة بالذهب، وبعضهم يقول بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت، وكل نسج أحكم ودخل بعضه في بعض، تسميه العرب وضنا، وتسمى المنسوج به موضونا ووضينا، ومنه الدرع الموضونة غذا أحكم نسجها ودوخل بعض حلقاتها في بعض.
ومنه قول الأعشى:
ومن نشج داود موضونة ** تساق مع الحي عيرا فعيرا

وقوله أيضًا:
وبيضاء كالنهى موضونة ** لها قونس فوق جيب البدن

ومن هذا القبيل تسمية البطان الذي ينسج من السيور، مع إدخال بعضها في بعض وضينا.
ومه قول الراجز:
ليتك تعدو قلقا وضينها

معترضا في بطنها جنينها

مخالفًا دين النصارى دينها

وهذه السرر المزينة هي المعبر عنها بالأرائك في قوله: {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرآئك} [الكهف: 31] وقوله: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ} [يس: 56] وقوله في هذه الآية الكريمة {مُّتَّكِئِينَ} حال من الضمير في قوله: {على سُرُرٍ} والتقدير: استقروا على سرر في حال كونهم متكئين عليها.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونهم على سرر متقابلين، أي ينظر بعضهم إلى وجه بعض، كلهم يقابل الآخر بوجهه، جاء موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى في الحجر {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] وقوله في الصافات {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النعيم على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الصافات: 41- 44].
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} [الطور: 14].
{بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)}.
قوله تعالى: {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] وفي المائدة في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّمَا الخمر والميسر} [المائدة: 90].
{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)}.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور، في الكلام على قوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22].
{وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] الآية، وفي الصافات في الكلام على قوله تعالى: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ} [الصافات: 48] وفي غير ذلك من المواضع.
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)}.
قد قدمنا الكلام عليه بإيضاح في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] وتكلمنا هناك على الاستثناء المنقطع وذكرنا شواهده من القرآن وكلام العرب، وبينا كلام أهل العلم في حكمه شرعًا.
{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)}.
أما قوله: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًا ظَلِيلًا} [النساء: 57] وأما قوله: {وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ} فقد دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15] وقوله: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45] وقوله: {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء} [الأعراف: 50] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
والمسكوب اسم مفعول سكب الماء ونحوه إذا صبه بكثر، والمفسرون يقولون: إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وأن الماء يصل إليهم أينما كانوا كيف شاءوا، كما قال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] وأما قوله: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} الآية: فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22].
{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)}.
الضمير في أنشأناهن: قال بعض أهل العلم: هو راجع إلى مذكور، وقال بعض العلماء. هو راجع إلى غير مذكور، إلا أنه دل عليه المقام.
فمن قال إنه راجع إلى مذكور، قال هو راجع إلى قوله: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] قال: لأن المراد بالفرش النساء والعرب تسمي المرأة لباسًا وإزارًا وفراشًا ونعلًا، وعلى هذا فالمراد بالرفع في قوله: {مَّرْفُوعَةٍ} رفع المنزلة والمكانة.
ومن قال: إنه راجع إلى غير مذكور، قال: إنه راجع إلى نساء لم يذكرن، ولكن ذكر الفرش دل عليهن. لأنهن يتكئن عليها مع أزواجهن.
وقال بعض العلماء: المراد بهن الحور العين، واستدل من قال ذلك بقوله: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} لأن الإنشاء هو الاختراع والابتداع.
وقالت جماعة من أهل العلم: أن المراد بهن بنات آدم التي كن في الدنيا عجائز شمطًا رمصًا، وجاءت في ذلك آثار مرفوعة عنه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا القول: فمعنى أنشأناهن إنشاء أي خلقناهن خلقًا جديدًا.
وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ} أي فصيرناهن أبكارًا، وهو جمع بكر، وهو ضد الثيب.
وقوله: {عُرُبًا} قرأه عامة القراء السبعة يغر حمزة وشعبة عن عاصم {عُرُبًا} بضم العين والراء، وقرأ حمزة وشعبة {عُرُبًا} بسكون الراء، وهي لغة تميم، ومعنى القراءتين واحدة، وهو جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل، وهذا هو قول الجمهور، وهو الصواب إن شاء الله.
ومنه قول لبيد:
وفي الخباء عروب غير فاحشة ** ريا الروادف يعشى دونها البصر

وقوله تعالى: {أَتْرَابًا} جمع ترب بكسر التاء، والترب اللذة. وإيضاحه أن ترب الإنسان ما ولد معه في وقت واحد، ومعناه في الآية: أن نساءأهل الجنة على سن واحدة ليس فيهن شابة وعجوز، ولكنهن كلهم على سن واحدة في غاية الشباب.
وبعض العلماء يقول: إنهن ينشأن مستويات في السن على قدر بنات ثلاثة وثلاثين سنة، وجاءت بذلك آثار مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكون الأتراب بمعنى المستويات في السن مشهور في كلام العرب.